عبدالحق مرصو – برشلونة.
في خطوة صدمت الرأي العام وأثارت موجة واسعة من الجدل داخل إسبانيا وخارجها، طرح حزب “فوكس” اليميني المتطرف مقترحًا يدعو إلى “ترحيل جماعي” لما بين 7 و8 ملايين شخص، من بينهم مهاجرون حاصلون على الجنسية الإسبانية وأبناء الجيل الثاني المولودين في البلاد. التصريحات التي جاءت على لسان النائبة روثيو دي مير، ورافقها دعم غير مباشر من زعيم الحزب سانتياغو أباسكال، وُصفت من قبل مراقبين بأنها تصعيد غير مسبوق يهدد قيم التعايش السلمي والمبادئ الديمقراطية الراسخة في الدولة.
ورأى محللون أن المقترح لا يفتقر فقط إلى الأسس القانونية والدستورية، بل يشكّل أيضًا خطرًا فعليًا على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في إسبانيا، خصوصًا أن الملايين من هؤلاء يسهمون في سوق العمل ويدعمون صناديق الضمان الاجتماعي في قطاعات حيوية.
ماذا اقترح فوكس بالضبط؟
في مؤتمر صحفي أثار موجة من الجدل والاستنكار، صرّحت النائبة عن حزب “فوكس” كارلا دي مير بأن “كل من لا يتبنى القيم الإسبانية يجب أن يُعاد إلى بلده، حتى وإن وُلد على الأراضي الإسبانية”. وأشارت إلى رقم تقديري يتراوح بين “7 إلى 8 ملايين شخص”، دون أن تُقدّم أي بيانات دقيقة أو خطة قانونية توضح كيفية تنفيذ هذا التصور، ما أثار ردود فعل حادة من أطياف سياسية وإعلامية عديدة اعتبرت التصريح “عنصريًا وخطيرًا”.
من جانبه، دافع زعيم الحزب سانتياغو أباسكال عن التصريحات، مؤكدًا أن الحزب “لا يمتلك أرقامًا دقيقة”، لكنه يطالب بطرد “كل من يرفض الاندماج في المجتمع الإسباني، أو يعتنق قيماً تتعارض مع الهوية الوطنية، أو يشارك في سلوكيات إجرامية أو تتضمن التمييز ضد المرأة”.
ويتبنّى “فوكس” منذ سنوات خطابًا متشدّدًا ضد الهجرة، لكنه هذه المرة تجاوز في مقترحه الخطوط الحمراء من حيث التعميم والاستهداف، حتى شمل مهاجرين يحملون الجنسية الإسبانية، بل وُلدوا في البلاد، ما يطرح أسئلة قانونية عميقة حول مدى احترام الحزب لمبدأ المواطنة والحقوق الدستورية.
ويرى مراقبون أن المقترح لا يستند فقط إلى غياب الإطار القانوني، بل يعكس رؤية أيديولوجية إقصائية قد تؤدي إلى تقسيم المجتمع الإسباني وزعزعة الثقة في المؤسسات الديمقراطية، في وقت تتصاعد فيه المخاوف من تنامي الخطابات المتطرفة في أوروبا.
من هم المهاجرون المستهدفون؟ تعريف فضفاض يفتح الباب للتمييز:
يكشف مقترح حزب “فوكس” عن رؤية فضفاضة وملتبسة لمفهوم “المهاجر غير المرغوب فيه”، إذ لا يقتصر الأمر على المهاجرين غير النظاميين أو من صدرت بحقهم إدانات جنائية، بل يشمل أيضًا فئات أوسع من المجتمع، منها:
● المهاجرون غير الحاصلين على أوراق إقامة قانونية.
● الأفراد المتورطون في جرائم أو أعمال عنف.
● الأشخاص الذين يعتبرهم الحزب “غير مندمجين” في القيم الإسبانية.
● مواطنون حاصلون على الجنسية الإسبانية.
● أبناء الجيل الثاني من المهاجرين، حتى لو وُلدوا وتعلموا ونشأوا في إسبانيا.
هذا التوسع المفاهيمي في تحديد من يستحق “الترحيل”، وفق منطق الحزب، يضع ملايين الأشخاص تحت دائرة الشك والتهديد الرمزي، خصوصًا المنحدرين من أصول مغاربية، أفريقية، وأميركية لاتينية. ويرى مراقبون أن هذا النهج لا يهدد فقط فئات بعينها، بل يقوّض مبدأ المساواة أمام القانون، ويعزز الانقسام المجتمعي على أسس عرقية وثقافية.
ردود فعل الأحزاب الإسبانية: رفض سياسي واسع:
الحكومة الإسبانية، ممثلة بالحزب الاشتراكي العمالي (PSOE) وشريكه التقدمي “سومار” (Sumar)، أعربت عن رفض قاطع لهذه التصريحات، معتبرة إياها عنصرية وخطيرة على التماسك المجتمعي في إسبانيا. وصرّحت المتحدثة باسم الحكومة بأن إسبانيا “بلد يقوم على التنوع والاندماج”، وأن “هذا النوع من الخطاب لا يمثل قيم الديمقراطية”.
من جهته، الحزب الشعبي (PP) رفض المقترح بوضوح، رغم محاولته الحفاظ على توازن سياسي مع حليفه فوكس في بعض الأقاليم. المتحدث باسم الحزب، ميغيل تيّادو، صرح أن “العدد المزعوم (8 ملايين) لا أساس له من الصحة”، وأن “أية خطة ترحيل جماعي ستكون غير قانونية وغير قابلة للتنفيذ”. كما أشارت النائبة إستير مونيوث إلى أن الترحيل الجماعي يخالف بشكل صريح المادة 4 من البروتوكول الأوروبي الرابع والمادة 19 من ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي.
أما حزب فوكس، فهو الحزب الوحيد الذي يدافع عن المقترح بشكل صريح. وعلى الرغم من عدم تقديم خطة تنفيذية واضحة أو تحديد قانوني للفئات المستهدفة، فإن زعماء الحزب مستمرون في الترويج لخطاب “رفض الاندماج”، ومطالبين بما يسمونه “استعادة السيادة والقيم الإسبانية الأصيلة”.
الحركات المدنية والنقابات العمالية والجمعيات الحقوقية بدورها أدانت المقترح، محذّرة من تداعياته على الوحدة الوطنية، واحتمالات تصاعد خطاب الكراهية والتمييز العنصري في الشارع الإسباني.
الموقف الأوروبي: تحذيرات من خرق جسيم للقوانين الأساسية:
أثار مقترح حزب “فوكس” بشأن الترحيل الجماعي للمهاجرين قلقًا واسعًا داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، حيث اعتبرته المفوضية الأوروبية وعدد من المشرعين في البرلمان الأوروبي انتهاكًا صارخًا للمادة 4 من البروتوكول رقم 4 للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تحظر بشكل صريح “الترحيل الجماعي للأجانب”.
وسبق للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن أصدرت أحكامًا واضحة ضد سياسات مماثلة، مؤكدة على ضرورة إخضاع كل حالة من حالات المهاجرين لتقييم فردي دقيق، بما يضمن احترام الكرامة والحقوق الأساسية.
من جانبه، اعتبر مجلس أوروبا أن هذا النوع من المقترحات لا يهدد فقط الحقوق الفردية، بل يشكل أيضًا خطرًا مباشرًا على تماسك المشروع الأوروبي المشترك، وعلى القيم الديمقراطية التي يقوم عليها.
ما الذي سيحدث إذا تم تنفيذ قرار الطرد؟ تداعيات اقتصادية واجتماعية عميقة:
يشير تقرير حديث لبنك إسبانيا المركزي (2024) إلى أن المهاجرين ساهموا بنسبة 25% من نمو الناتج المحلي الفردي منذ عام 2022، ويشكلون أكثر من 18% من القوة العاملة النشطة في البلاد. كما تفيد البيانات الرسمية بأن أكثر من 2.5 مليون مهاجر يساهمون بانتظام في تمويل نظام الضمان الاجتماعي من خلال الاشتراكات الشهرية.
ويتصدر المغاربة قائمة الجاليات الأجنبية في إسبانيا، إذ يتجاوز عددهم 900 ألف شخص، بحسب معطيات الضمان الاجتماعي لعام 2025. ويمثل المغاربة أيضًا الفئة الأعلى تسجيلاً في صناديق الضمان الاجتماعي مقارنة ببقية الجنسيات الأجنبية.
وتتمثل مساهمة المهاجرين، ولا سيما المغاربة، في قطاعات حيوية مثل الزراعة، والبناء، والخدمات اللوجستية، والرعاية الصحية والاجتماعية.
وفي حال مضت الحكومة في تنفيذ قرار الطرد الجماعي، فإن الاقتصاد الإسباني مهدد بخسارة ملايين الأيدي العاملة الشابة، الأمر الذي سينعكس سلبًا على استدامة صناديق التقاعد والضمان الاجتماعي.
كما قد تدخل قطاعات حيوية، على رأسها الصحة والتعليم والبناء، في أزمة خانقة نتيجة النقص الحاد في الموارد البشرية المؤهلة، ما قد يؤدي إلى تباطؤ اقتصادي واسع النطاق، وارتفاع تكلفة الخدمات الأساسية.
المقترح… سلاح انتخابي بلا قابلية قانونية:
يرى العديد من المحللين أن مقترح حزب “فوكس” بطرد مئات الآلاف من المهاجرين لا يتجاوز كونه سلاحًا دعائيًا موجهًا لحشد دعم الناخبين المتشددين، خصوصًا في المناطق التي يتصاعد فيها الخطاب الشعبوي والمعادي للأجانب. فالحزب، بحسب المراقبين، يدرك تمامًا أن تنفيذ هذا المقترح مستحيل من الناحية الدستورية والقانونية، لكونه يتعارض مع التشريعات الإسبانية والمواثيق الأوروبية التي تضمن الحقوق الأساسية للأفراد، بمن فيهم المهاجرون المقيمون بصفة قانونية.
ويُنظر إلى هذا الخطاب بوصفه محاولة لصناعة عدو داخلي واستثماره سياسيًا في ظل تراجع تأثير بعض القضايا التقليدية لليمين، وهو ما يعكس توجهًا متصاعدًا في بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة عبر أوروبا.
حتى حزب الشعب، الشريك المحتمل لـ”فوكس” في بعض التحالفات المحلية أو الإقليمية، يجد نفسه محرجًا من هذا الطرح، إذ إن تبنيه سيعني الاصطدام مباشرة بالقانون الأوروبي، والإضرار بصورة إسبانيا في الخارج، لا سيما أمام شركائها في الاتحاد الأوروبي ومنظمات حقوق الإنسان.
ويحذر خبراء من أن المضي في هذا النوع من المقترحات، حتى لو كان دعائيًا، يهدد بتسميم النقاش العام، وتعميق الانقسامات داخل المجتمع الإسباني، وتغذية خطاب الكراهية والعنصرية، بما لا يخدم الاستقرار الاجتماعي ولا المصالح الاستراتيجية للبلاد.