عبدالحق مرصو – اسبانيا.
لقد سنحت لي الفرصة لزيارة سراييفو، المدينة التي لا تزال تحمل جراح الحرب، والمرور بموقع مذبحة سربرنيتسا ومتحف الإبادة والتطهير العرقي في قلب العاصمة.
ما رأيته هناك لم يكن مجرد صور ووثائق، بل أدلة دامغة على الوحشية، والقتل الجماعي، والتعذيب المنهجي الذي مارسته القوات الصربية بحق المدنيين المسلمين. كانت الصدمة عميقة، ليس فقط من حجم الجريمة، بل من الطريقة التي تم بها ذبح البشر بصمت دولي كامل.
واليوم، في ذكرى تلك المذبحة، ومع تصاعد أرقام الضحايا في غزة لتتجاوز 80 ألف قتيل، لا أستطيع تجاهل المقارنة بين سربرنيتسا 1995 وحرب غزة 2025. هناك خيط دموي واحد… اسمه الإبادة الجماعية.
ما بين سربرنيتسا وغزة ثلاثون عامًا من المسافة الجغرافية، لكن المشهد السياسي والإنساني يكاد يكون واحدًا: إبادة جماعية تستهدف شعبًا بأكمله، وصمت دولي يُشبه التواطؤ.
مجزرتان… وجرح واحد:
في سربرنيتسا، ارتكبت القوات الصربية واحدة من أسوأ الفظائع في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، إذ قامت بفصل النساء عن الرجال، ثم أعدمت أكثر من 8,000 رجل وصبي بدم بارد، ودفنتهم في مقابر جماعية، واغتصبت النساء بوحشية فقط لأنهم مسلمون.
في غزة، ومنذ 7 أكتوبر 2023، سقط أكثر من 80,000 فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال، بفعل قصف عشوائي مكثف طال المنازل والمستشفيات والملاجئ، ودمّر بنية الحياة بالكامل.
وفي الحالتين، لم يكن الضحايا مقاتلين… بل كانوا مدنيين فقط، تحوّلوا إلى أرقام في نشرات الأخبار.
الحصار كسلاح: سراييفو وغزة:
في البوسنة، حوصرت العاصمة سراييفو لأكثر من 3 سنوات، وقُطعت عنها الكهرباء والماء والطعام، لولا نفق الأمل في سراييفو، وهو عبارة عن ممر سري بطول 800 متر حفره البوسنيون عام 1993 تحت مطار سراييفو خلال الحصار الصربي، وكان شريان الحياة الوحيد للمدينة. استُخدم لنقل الغذاء والدواء والأسلحة والمصابين، وأسهم في بقاء العاصمة صامدة. مثّل رمزًا للمقاومة المدنية في وجه الإبادة.
تحوّل لاحقًا إلى متحف يوثق صمود سراييفو. وظيفته الإنسانية تشبه ما تؤديه بعض أنفاق غزة في ظل الحصار، رغم اختلاف السياق والتعامل الدولي مع كل حالة.
أما في غزة، فيُفرض الحصار منذ 17 عامًا، لكنه اشتدّ حتى أصبح حصارًا كاملًا شاملًا: لا غذاء، لا ماء، لا كهرباء، لا وقود، لا دواء. والهدف هو تجويع سكان غزة، وانتشار الأمراض بين الغزّاوِيّين من أجل طردهم إلى صحراء سيناء والأردن.
في كلا الحالتين، كان الهدف هو إخضاع السكان المدنيين جماعيًا، وتحطيم إرادتهم عبر التجويع والترويع.
الإدانة… والاعتراف الدولي:
ما ميّز مذبحة سربرنيتسا أن المحكمة الجنائية الدولية أدانت القادة الصرب بارتكاب “جريمة إبادة جماعية”، وأُحيل القادة إلى العدالة، بمن فيهم الجنرال راتكو ملاديتش، الذي حُكم عليه بالسجن مدى الحياة.
أما في حالة غزة، فرغم الأدلة المتراكمة على قصف المدنيين، واستخدام الفوسفور الأبيض، واستهداف المستشفيات، والمجازر الجماعية، لم تُوجَّه حتى الآن أي إدانة حاسمة من قبل محكمة دولية ضد إسرائيل.
بل ما زال الغرب يبرر الجرائم تحت عنوان: “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”.
المجتمع الدولي… الصمت نفسه:
في سربرنيتسا، وقفت قوات الأمم المتحدة الهولندية عاجزة أو متواطئة، وسمحت للمجزرة أن تقع.
وفي غزة، تُمنع فرق الإغاثة من الدخول، ويُقصف موظفو الأمم المتحدة، وتُشلّ قرارات مجلس الأمن بفيتو أمريكي متكرر.
في المحصلة، الصورة لم تتغير كثيرًا: حيث الضحايا مسلمون، الجلاد مدعوم، والعدالة مؤجلة… أو ربما ملغاة.
من يملك الذاكرة… لا ينهزم أو ينسى:
تُحيي أوروبا اليوم ذكرى 30 عامًا على مذبحة سربرنيتسا، وتقول: “لن تتكرر أبدًا”.
لكن غزة تصرخ من تحت الركام: “لقد تكرّرت… وأنتم ترون”.
والأخطر أن الإفلات من العقاب في البوسنة استمر لسنوات قبل أن تتحرك العدالة الدولية. فهل ننتظر عقدين آخرين لنعترف أن ما جرى في غزة كان إبادة؟
من نهر درينا حيث جرت دماء سربرنيتسا، إلى نهر غزة المليء بالأشلاء، تتكرر الجريمة الكبرى، ويتكرّر صمت العالم.
لكن ما لا يتكرر هو الغفران. لأن ذاكرة الشعوب أطول من أعمار الجلادين.
