رثاء يوسف المتمرد — وداعٌ يوجِب فتحَ تحقيقٍ عاجل في حادثة الرحيل.
يوسف ... كتب نهايته ولم يُنصت إليه أحد.

أحمد العمري – برشلونة.
في مدينة اعتادت الصمت أكثر من المواجهة، ورأت في التجاهل وسيلة لتفادي الإحراج، رحل يوسف بنغالم، الشاب المعروف بلقب “المتمرد”، ضحية حادثة سير مأساوية، لكنها بالنسبة لكثيرين لم تكن مجرد حادث عرضي، بل نتيجة مباشرة لسلسلة من الإهمال والتواطؤ والصمت الطويل. يوسف لم يكن مجرد ناشط فيسبوكي أو مدوّن ساخر، بل كان صوتًا يوميًا صادقًا ينقل هموم المواطن الزموري، ويضع يده على الجراح الاجتماعية التي تؤرق ساكنة إقليم الخميسات. دفع شهورًا من حريته ثمنًا لمواقفه، إذ قضى وقتًا خلف القضبان بسبب جرأته وتجاوزه الخطوط الحمراء، لا من أجل مصلحة شخصية، بل دفاعًا عن من لا صوت لهم.
كتب في 20 أكتوبر 2024 تدوينة تُشبه البيان الاستباقي، حين أشار إلى تحركات “غير بريئة” أمام مقر سكنه، محمّلاً المسؤولية للسلطات الأمنية، ومُلمحًا إلى وقوف شخصيات نافذة وراء ما قد يُدبر له في الخفاء. كانت تلك الكلمات خليطًا من الحذر والإصرار، لكنها لم تكن مجرد شكوك، بل تحذير واضح تجاه واقع يعرف تفاصيله جيدًا. ولم تمر سوى أسابيع حتى نشر تدوينته الشهيرة يوم 19 نونبر، والتي تحولت إلى نبوءة حقيقية، حين كتب: “ماشي أي واحد توفى جراء حادث سير مرتبطة بدراجة نارية، راه سلكَوط و مشرمل… راه ممكن أنا و نتا غدا نكونوا ضحية حادث سير بموطور، حيث واخا تعيا ما تحضي وتراعي، لا مفر من القدر”.
ورغم حديثه عن القدر، إلا أن ما حصل لم يكن قَدَرًا نقيًّا، بل حادثًا وراءه إهمال واضح، وسائق متهور معروف في المدينة، يقود سيارته في حالة سُكر شبه يومي، دون رخصة سياقة سبق أن نُزعت منه بسبب مخالفات سابقة، ومع ذلك ظل يصول ويجول بحرية تامة، أمام أعين الجميع، في مدينة “تبخّرها بدرهم ديال الجاوي”، كما يصفها أبناء المنطقة، في إشارة إلى غياب أي حزم أمني تجاه مثل هؤلاء. شهادات من عين المكان أكدت أن الجاني، بعد أن صدم يوسف وسَحله، نزل من سيارته ليُكمل قنينة “هينيكين الأخيرة”خسب شهود عيان بكل استهتار، قبل أن يُعتقل رفقة عشيقته وسط ذهول الساكنة.
الواقع أن ساكنة الخميسات لم تتفاجأ من الحادث في حد ذاته، بل من أن هذا الشخص ظل حراً، رغم أن شكايات كثيرة قُدمت ضده، بسبب رعبه الليلي الذي كان يزرعه بسيارته، دون أن تتحرك الجهات الأمنية المعنية، وكأن هناك من يضمن له حصانة غير مرئية. وهذا ما يُعيد إلى الواجهة سؤالًا مؤلمًا: من يحمي أبناء بعض الأعيان؟ ولماذا يُغض الطرف عن تجاوزاتهم، ولو كانت أرواح الأبرياء هي الثمن؟
إن ما وقع ليوسف المتمرد لا يجب أن يمر بصمت، بل يُفترض أن يكون جرس إنذار لكل المسؤولين الشرفاء داخل القضاء والأمن، لفتح تحقيق نزيه وجريء، ليس فقط لمعرفة تفاصيل الحادث، بل لتفكيك شبكات الحماية والعلاقات المشبوهة بين بعض رجال السلطة وأعيان المدينة. فما جدوى القوانين إذا كان تنفيذها انتقائيًا؟ وما قيمة الأمن إذا لم يشمل الجميع؟
يوسف لم يكن باحثًا عن بطولة، بل كان يحمل هموم مدينته على كتفيه، ويدفع من حريته وأعصابه وصحته ثمنًا لقول الحقيقة. رحل المتمرد، لكن بقيت كلماته، وشهاداته، وصوره، وصرخته الأخيرة… محفورة في وجدان مدينة لم تعد تملك رفاهية السكوت.
رحم الله يوسف بنغالم، وأسكنه فسيح جناته، وجعل من دمه المراق لعنة على كل متواطئ، وصاعقًا في وجه كل مسؤول باع ضميره.