عبد الحق مرصو – إسبانيا.
في شوارع اوروبا مثل باريس وبروكسيل وأمستردام ولندن ومدريد، تتشكل ملامح أزمة عميقة يعيشها جيل جديد من أبناء الجاليات المغربية والعربية. جيل وُلد في الغرب، يحمل جنسيته، ويتقن لغته، لكنه في قرارة نفسه يشعر بأنه لا ينتمي إليه تمامًا، ولا يجد ذاته بالكامل في وطن الآباء والأجداد. أزمة هوية ثقافية ودينية تتفاقم، تغذيها عوامل اجتماعية، تربوية، سياسية، وأيضًا إعلامية، وتدفع بالكثير من الشباب إلى الضياع، أو حتى الانحراف أو التطرف.
ازدواجية المرجعيات: الانقسام يبدأ من البيت.
تتجلى أولى بوادر التمزق الهوياتي داخل المنزل نفسه. في البيت، يُطلب من الطفل أن يكون “مغربيًا” أو “مسلمًا ملتزمًا” وفق قيم الأسرة الأصلية، لكنه في الخارج يواجه مجتمعًا بقيم مختلفة جذريًا: حرية شخصية، استقلالية، علمانية، مساواة بين الجنسين…الخ، هذا الصدام غير المحسوم يولّد في داخله صراعًا عميقًا، ويجعله يطرح عدة تساؤلات، من أنا؟ لمن أنتمي؟ هل أعيش حسب “قواعد البيت” ام “قواعد الشارع والمدرسة”؟ هل أعيش بشخصيتين؟
غالبًا، لا تساعد الأسرة في تقديم إجابة واضحة. بعض الآباء يلجؤون إلى أسلوب الزجر بدل الحوار، مما يعمّق الفجوة بين الجيلين. ومن ناحية أخرى، لا توفر المدرسة الغربية دائمًا مناخًا يحتوي هذا التعدد الهوياتي، بل قد تعامله كمصدر “خلل” أو “خطر”.
عنصرية صامتة وتمييز مؤسسي.
رغم أن أبناء الجاليات يحملون جنسية البلد المضيف، فإنهم كثيرًا ما يُعاملون كغرباء. يجدون صعوبات في ولوج سوق الشغل، يتعرضون للتمييز في التعليم والسكن، وغالبًا ما تلاحقهم نظرة الشك، فقط بسبب أسمائهم أو ملامحهم العربية.
عندما يزورون بلدهم الأصلي، لا يشعرون بالانتماء الكامل أيضًا: يُنظر إليهم كأجانب “لا يتكلمون جيدًا لغة بلد الأجداد”، “مدلّلين”، “لا يعرفون تقاليد البلاد”.
النتيجة؟ شعور عميق بالاغتراب ايضا، وكأنهم لا ينتمون لأي مكان. لا إلى البلد الذي وُلدوا فيه، ولا إلى بلد آبائهم.
الإعلام… حين يُستخدم الأصل كسلاح اتهام.
يلعب الإعلام الغربي دورًا لا يُستهان به في ترسيخ هذا الشعور بالاغتراب. ففي تغطية الجرائم أو الأحداث السلبية، نلاحظ تركيزًا مفرطًا على أصل الجاني إن كان من أصول مهاجرة، حتى وإن وُلد في البلد ويحمل جنسيته. يُقال مثلًا “شاب من أصل مغربي” أو “فرنسي من أصول مغربية”.
أما إذا كان الجاني من أصول أوروبية، فنادرًا ما يُذكر أصله، بل يُشار إلى حالته النفسية أو ظروفه الاجتماعية.
هذا التمييز الإعلامي في التناول لا يمرّ مرور الكرام عند الشباب. بل يولّد شعورًا بالظلم والإقصاء، ويكرّس فكرة أنهم “دائمًا تحت المجهر”، وأنهم “مواطنون مشروطون” اي خاضعة لشروط قانونية، و لا يُنظر إليهم إلا من زاوية الريبة والخطر.
حين تصبح الهوية عبئًا.
أزمة الهوية هذه لا تبقى حبيسة المشاعر، بل تُترجم على الأرض إلى مظاهر مقلقة:
● الانطواء والعزلة: بعض الشباب يفقد ثقته في الجميع، فيعيش في فقاعة منعزلة.
● الانحراف والجنوح: آخرون ينخرطون في عالم المخدرات أو العنف كردّ فعل انتقامي من مجتمع يشعرون بأنه يرفضهم.
● التطرف الديني أو الهوياتي: يجد بعضهم في الخطابات المتطرفة، سواء الدينية أو القومية، ملاذًا وهوية “صلبة” تعوّض التمزق الذي يعيشونه.
تقارير رسمية في دول أوروبية عدة أظهرت صلة واضحة بين ضعف الاندماج وأزمات الهوية، وبين بعض حالات التطرف أو التورط في الجريمة.
من يتحمل المسؤولية؟
المسؤولية عن هذا الوضع جماعية ومتعددة الأطراف:
● الأسرة: حين تكتفي بالمنع والتلقين دون تقديم هوية ثقافية مرنة، تفشل في بناء أبناء واثقين من ذواتهم ومقتنعين بهويتهم واختلافهم الثقافي.
● الدولة المضيفة: عندما تترك هؤلاء الشباب في الهامش دون سياسات إدماج فعالة، وتُغذي إعلاميًا النظرة السلبية إليهم.
● الدولة الأصلية: التي تكتفي بخطابات عاطفية عن الجالية، دون تقديم محتوى ثقافي وتربوي عصري يصل إلى الجيل الجديد بلغته وطموحاته.
ما هي الحلول المقترحة؟
1. في الأسرة: يجب على الآباء فتح حوار صريح مع أبنائهم، وتعليمهم أن الهوية ليست تضادًا، بل تراكب. يمكن أن تكون مغربيًا وأوروبيًا في الوقت نفسه.
2. في المدرسة والإعلام: ينبغي اعتماد خطاب يكرّس التعدد الثقافي كقيمة، لا كتهديد. كما يجب كفّ الإعلام عن شيطنة الأصول المهاجرة كلما حدثت جريمة.
3. دور الدولة الأصلية: مثل المغرب، أن تطور خطابًا حديثًا موجهًا إلى الجيل الثاني والثالث من المهاجرين، عبر منصات رقمية وبرامج تعليمية تبني الجسور بدل استحضار الماضي فقط.
4. تمكين الشباب من التعبير عن ذواتهم: عبر الفن، المسرح، الكتابة، الرياضة… أي وسيلة تجعلهم يحكون قصتهم بصوتهم، لا بصوت الإعلام الرسمي.
الانتماء لا يُمنح… بل يُبنى.
الانتماء ليس معادلة رقمية ولا قرارًا إداريًا. إنه إحساس داخلي يتشكل عندما يشعر الإنسان بالاعتراف، بالكرامة، وبالمكان. هذا الجيل من الشباب لا يطلب أكثر من ذلك. يريد أن يُعامل كمواطن كامل، لا كحالة خاصة، ولا كمصدر خطر محتمل.
في النهاية، من لا يجد لنفسه مكانًا في الحاضر، سيبحث عنه في أوهام الماضي… أو في ظلال الإنحراف و التطرف.